الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وكان في هذا الميثاق: أن يدخلوا بيت المقدس سجدًا. وأن يعظموا السبت الذي طلبوا أن يكون لهم عيدًا. ولكن ماذا كان؟ إنهم بمجرد ذهاب الخوف عنهم؛ وغياب القهر لهم، تملصوا من الميثاق الغليظ فنقضوه، وكفروا بآيات الله، وقتلوا أنبياءه بغير حق. وتبجحوا فقالوا: إن قلوبنا لا تقبل موعظة، ولا يصل إليها قول، لأنها مغلفة دون كل قول! وفعلوا كل الأفاعيل الأخرى التي يقصها الله سبحانه على رسوله وعلى المسلمين- في مواجهة اليهود- في سياق هذه الآيات.{فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف...}وعند قولهم: {قلوبنا غلف}.. وهي القولة التي كانوا يجيبون بها على دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إما تيئيسًا له من إيمانهم واستجابتهم، وإما استهزاء بتوجيه الدعوة إليهم، وتبجحًا بالتكذيب وعدم الإصغاء، وإما هذا وذلك معًا.. عند قولهم هذا ينقطع السياق للرد عليهم:{بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلًا}فهي ليست مغلفة بطبعها.إنما هم كفرهم جر عليهم أن يطبع الله على قلوبهم، فإذا هي صلدة جامدة مغطاة، لا تستشعر نداوة الإيمان ولا تتذوق حلاوته، فلا يقع منه الإيمان، إلا قليلا، ممن لم يستحق بفعله، أن يطبع الله على قلبه. أي أولئك الذين فتحوا قلوبهم للحق واستشرفوه، فهداهم الله إليه ورزقهم إياه. وهم قلة قليلة من اليهود. كعبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسد بن سعية، وأسد بن عبيدالله.وبعد هذا الاستدراك والتعقيب، يعود السياق إلى تعداد الأسباب التي استحقوا عليها ما استحقوا من تحريم بعض الطيبات عليهم في الدنيا، ومن إعداد النار وتهيئتها لهم، لتكون في انتظارهم في الآخرة!{وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا. وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله...}ويكرر صفة الكفر كلما ذكر إحدى منكراتهم. فقد ذكرها عند قتلهم الأنبياء بغير حق- وما يقتل نبي بحق أبدًا فهي حال لتقرير الواقع- وذكرها هنا بمناسبة قولهم على مريم بهتانًا عظيمًا. وقد قالوا على مريم الطاهرة ذلك المنكر الذي لا يقوله إلا اليهود! فرموها بالزنا مع يوسف النجار- لعنة الله عليهم! ثم تبجحوا بأنهم قتلوا المسيح وصلبوه، وهم يتهكمون بدعواه الرسالة فيقولون: قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله!وحين يصل السياق إلى هذه الدعوى منهم يقف كذلك للرد عليها، وتقرير الحق فيها:{وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن. وما قتلوه يقينًا. بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزًا حكيمًا}.إن قضية قتل عيسى عليه السلام وصلبه، قضية يخبط فيها اليهود- كما يخبط فيها النصارى بالظنون- فاليهود يقولون: إنهم قتلوه ويسخرون من قوله: إنه رسول الله، فيقررون له هذه الصفة على سبيل السخرية! والنصارى يقولون: إنه صلب ودفن، ولكنه قام بعد ثلاثة أيام. والتاريخ يسكت عن مولد المسيح ونهايته كأن لم تكن له في حساب!وما من أحد من هؤلاء أو هؤلاء يقول ما يقول عن يقين.. فلقد تتابعت الأحداث سراعًا؛ وتضاربت الروايات وتداخلت في تلك الفترة بحيث يصعب الاهتداء فيها إلى يقين.. إلا ما يقصه رب العالمين.والأناجيل الأربعة التي تروي قصة القبض على المسيح وصلبه وموته ودفنه وقيامته.. كلها كتبت بعد فترة من عهد المسيح؛ كانت كلها اضطهادًا لديانته ولتلاميذه يتعذر معه تحقيق الأحداث في جو السرية والخوف والتشريد.. وقد كتبت معها أناجيل كثيرة. ولكن هذه الأناجيل الأربعة اختيرت قرب نهاية القرن الثاني للميلاد؛ واعتبرت رسمية، واعترف بها؛ لأسباب ليست كلها فوق مستوى الشبهات!ومن بين الأناجيل التي كتبت في فترة كتابة الأناجيل الكثيرة: إنجيل برنابا.وهو يخالف الأناجيل الأربعة المعتمدة، في قصة القتل والصلب، فيقول:ولما دنت الجنود مع يهوذا، من المحل الذي كان فيه يسوع، سمع يسوع دنو جم غفير. فلذلك انسحب إلى البيت خائفًا. وكان الأحد عشر نيامًا. فلما رأى الخطر على عبده، أمر جبريل وميخائيل ورفائيل وأوريل، سفراءه.. أن يأخذوا يسوع من العالم. فجاء الملائكة الأطهار، وأخذوا يسوع من النافذة المشرفة على الجنوب، فحملوه ووضعوه في السماء الثالثة، في صحبة الملائكة التي تسبح إلى الأبد.. ودخل يهوذا بعنف إلى الغرفة التي أصعد منها يسوع. وكان التلاميذ كلهم نيامًا. فأتى الله العجيب بأمر عجيب فتغير يهوذا في النطق وفي الوجه فصار شبيهًا بيسوع. حتى أننا اعتقدنا أنه يسوع. أما هو فبعد أن أيقظنا أخذ يفتش لينظر أين كان المعلم. لذلك تعجبنا وأجبنا: أنت يا سيدي معلمنا. أنسيتنا الآن؟... إلخ.وهكذا لا يستطيع الباحث أن يجد خبرًا يقينًا عن تلك الواقعة- التي حدثت في ظلام الليل قبل الفجر- ولا يجد المختلفون فيها سندًا يرجح رواية على رواية.{وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه. ما لهم به من علم إلا اتباع الظن}.أما القرآن فيقرر قراره الفصل:{وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم}.{وماقتلوه يقينًا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزًا حكيمًا}.ولا يدلي القرآن بتفصيل في هذا الرفع أكان بالجسد والروح في حالة الحياة؟ أم كان بالروح بعد الوفاة؟ ومتى كانت هذه الوفاة وأين. وهم ما قتلوه وما صلبوه وإنما وقع القتل والصلب على من شبه لهم سواه.لا يدلي القرآن بتفصيل آخر وراء تلك الحقيقة؛ إلا ما ورد في السورة الأخرى من قوله تعالى: {يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي}.. وهذه كتلك لا تعطي تفصيلًا عن الوفاة ولا عن طبيعة هذا التوفي وموعده.. ونحن- على طريقتنا في ظلال القرآن- لا نريد أن نخرج عن تلك الظلال؛ ولا أن نضرب في أقاويل وأساطير؛ ليس لدينا من دليل عليها، وليس لنا إليها سبيل. اهـ.
|